بسم الله الرحمن الرحيم
(5)
"والحسد هو: تمني زوال نعمة المحسود، أو هو البغض والكراهية لما يراه من
حسن حال المحسود، وهو طبع لئيم يسكن القلوب الضعيفة الميتة مهما كان شأن
أصحابها، فلربما وجدت الضعيفة الميتة -مهما كان شأن أصحابها- فلربما وجدت
المرء قد ملك من صفات الحسن، وأسباب الملك ما لم يملكه غيره؛ لكنه لغلبة
طبعه الحاسد لا يحب رؤية النعمة على غيره".
أخي الكريم: واعلم أن الحسد هو من الاعتراض على حكم الله -سبحانه-،
كما قيل: "من رضي بقضاء الله لم يسخطه أحد، ومن قنع بعطائه لم يدخله حسد".
قال بعضهم: "ما رأيت ظالمًا أشبه بمظلوم من الحسود؛ نفس دائم، وهم لازم، وقلب هائم".
وإذا تأملت في قول الله -جلّ وعلا-:
وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق: 5]؛ علمت أن الحسد طبع غالبًا ما يتسلل إلى القلوب، لكن القلوب
الحية بالإيمان تبصر شعاعه، فتعكسه وتطرده وترده خائبًا، لكن القلوب
الضعيفة تستجيب؛ ولذلك قال -تعالى-:
وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق: 5].
قال ابن تيمية: "ما خلا جسد من حسد، ولكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه".
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
{لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث} [الراوي: أنس بن مالك، المحدث: الألباني، صحيح].
واعلم أخي أن الحسد كما يوجب قسوة القلب، ولؤم الطبع، وفساد
الأخلاق، فهو يعطل القلب من اكتساب أعظم الثواب، إذ القلب الخالي من الحسد
مملوء ولابد بالخير؛ فلا تجد صاحبه إلا يحدث نفسه بفعل الخيرات، وإن عجز
عنها، قد سارت به نيته الصافية، وحبه لنفع العباد، ما لم تسر الصلوات
والقربات بالعباد!.
وقد قال -صلى الله عليه وسلم-:
{إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلّ امرئ ما نوى} الحديث [رواه: عمر بن الخطاب، المحدث: الألباني، صحيح].
أخي: فإن رُمت القلب الطاهر، فوطن نفسك على الصبر، وجاهد نفسك في
بذل النفع للعباد، تُحسن إلى من أساء إليك، وتصل من قطعك، وتعطي من منعك،
وتسامح من آذاك، في الحديث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
{المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم} [الراوي: عبدالله بن عمر، المحدث: ابن حجر العسقلاني، إسناده حسن].
فكما أن تطهير قلبك من الحسد يوجب لك النقاء والسلامة، فهكذا صبرك
على الحسود، واحتمالك لأذاه، وإحسانك إليه؛ يوجب لك الخيرية والراحة
والنصر، كما يمتص حسد الحاسد ويرده، فإن الغالب في الناس أن الإحسان يمتلك
قلوبهم، ويردهم إلى رشدهم.
كما قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإنسان إحسان