ج السر عثمان
الحوار المتمدن-العدد: 2454 - 2008 / 11 / 3 - 09:09
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات







أولا: كان قيام السلطنة الزرقاء أو سلطنة الفونج نقطة تحول هامة في توسع وتوحيد رقعة الدولة السودانية، ومن ناحية التحديد المكاني والجغرافي، المقصود بسلطنة الفونج: هي التي نشأت علي حدود مملكتي المقرة وعلوة في الفترة(1504- 1821م)، امتدت مملكة الفونج من الشلال الثالث الي اقصي جبال فازوغلي شمالا وجنوبا من سواكن علي البحر الأحمر الي النيل الابيض شرقا وغربا، وكان الحد بين سنار ومشيخة قري (الحلفايا) مدينة اربجي بقرب المسلمية والتنظيم الاداري من اربجي فصاعدا جنوبا كان تابعا لملوك الفونج رأسا لادخل لمشايخ قري فيه ومنها شمالا الي الشلال الثالث كان تابعا لادارة مشيخة قري أو العبدلاب تحت سيادة ملوك الفونج. وكانت المملكة منقسمة الي عدة ممالك ومشيخات من سود ونوبة وحضر وبادية، وكان كل ملك أو شيخ يدفع الجزية لملك سنار ، الا أن له نوعا من الاستقلال والممالك هي: مشيخة خشم البحر، مملكة فازوغلي، مشيخة الحمدة، مملكة بني عامر، مملكة الحلنقة. أما الممالك والمشيخات التي خضعت للفونج بواسطة العبدلاب هي: مشيخة الشنابلة، مملكة الجموعية، مملكة الجعليين، مملكة الميرفاب، مملكة الرباطاب، مملكة الشايقية، مملكة الدفار، مملكة الخندق، مملكة الخناق، مملكة ارقو.
اما البلاد الواقعة بين الشلال الثالث والشلال الأول فقد كانت بيد الكشاف الأتراك(نعوم شقير: 1981، ص 139- 140).
أصل الفونج:
اختلف المؤرخون حول أصل وموطن الفونج، وكل له حيثياته، وأرجعوا أصل وموطن الفونج الي الآتي:1- بلاد الحبشة وبلاد برنو. 2- منطقة الشلك علي النيل الأبيض.3- أصل عربي يعود الي بني أمية(كما يقول النسابة السودانيين)( وللمزيد من التفاصيل راجع علي سبيل المثال د.يوسف فضل: مقدمة في تاريخ الممالك السودانية في السودان الشرقي، دار جامعة الخرطوم 1989).
أصل العبدلاب:
تجمع اخبار العبدلاب أنهم من أصل عربي صريح ويري جيمس بروس أنهم من قريش ويروي أنهم من الأشراف، كما ورد في مخطوطة كاتب الشونة(مخطوط باريس) أن عبد الله القريناتي من عربان القواسمة، وهناك رواية الشيخ عبد الدافع التي ترجع القواسمة الي جهينة وتنسب أقدم مخطوطة عبدلابية عبد الله القريني الي بطن من قبيلة رفاعة من جهة امه والي الأشراف الحسينيين(د. يوسف فضل: المرجع السابق، ص، 74).
ثانيا: خصائص ودوافع تحالف الفونج والعبدلاب:
اختلف المؤرخون والباحثون حول طبيعة ودوافع الحلف الفونجي العبدلابي، وسوف نورد امثلة لوجهات النظر المختلفة، ومن ثم نقدم مساهمتنا حول ذلك:
1- يري يوسف فضل أن المؤرخين حتي عهد قريب اجمعوا علي ان سقوط مملكة علوة المسيحية تم نتيجة لاتفاق ثنائي بين الفونج والعبدلاب، ومن ثم تكونت مملكة الفونج علي الجزء الشمالي من السودان الشرقي(أو سودان وادي النيل) من سنة 1504 م حتي 1821م، الا أن دراسات حديثة ابتدعها البروفيسور هولت ترجح أن القبائل العربية بقيادة عبد الله جماع هي التي اسقطت سوبا عاصمة علوة، وبعد ذلك تمكن الفونج من هزيمة العبدلاب في اربجي سنة 1504م، وبالتالي سيطروا علي مملكة الفونج.
وحول خصائص هذا الحلف يري د. يوسف فضل أنه حلف أدي الي اقامة صرح سياسي جديد، وهو يمثل في قمته نوعا من الحكم الذي يعطي للفونج الكلمة الأولي في ادارة البلاد كما يمثل نوعا من التحالف الفضفاض بين زعامات أو مشيخات قبلية متعددة بينها وبين العبدلاب من جهة والفونج من جهة أخري علي مستوي أدني، وكانت مملكة الفونج أبعد ماتكون عن الحكومة المركزية، فليست هناك مؤسسات ادارية متماثلة تنتشر في سائر انحاء المملكة ربما عدا التنظيم القبلي، وكان تدخل السلاطين في الشئون الداخلية وتعيين شيخ أو زعيم او ما يعرف بالمك(وجمعها مكوك) مكان الزعيم المتوفي ولكن من اسرته الحاكمة. وربما رفضت المشيخات تسديد ماعليها من ضرائب أو الامتثال لاختيار السلطان، ومن ثم فان قوة جيشه الرادعة كان صمام الأمان لكثير من حالات التمرد والفيصل فيها، ومع وجود هذا التنظيم الاداري الفضفاض الذي يكفل قدرا كبيرا من الاستقلال في الشئون الداخلية، فان سعة رقعة وتباين شعوبها والمنافسة الكامنة بين الفونج والعبدلاب ادت الي الكثير من التوترات والتناقضات والتي ربما كانت السبب الأساسي في ضعف المملكة آخر الأمر(د. يوسف فضل:المرجع السابق، ص 59- 60).
2- وحول دوافع هذا الحلف يري البروفيسور محمد عمر بشير (أن الدافع لاتحاد هذه المملكات والمشايخ اختياريا هو حاجتها لحماية طرق القوافل التجارية وتطوير التجارة الداخلية والدفاع عن نفسها ضد القارات المحلية والغزوات الخارجية)(محمد عمر بشير:تاريخ الحركة الوطنية في السودان 1987م، ص 14).
3- أما محمد صالح محي الدين، فيفيدنا بأن (علاقة الفونج بالعبدلاب كان يحكمها أن الفونج كانوا أقدم ملكا وتحضرا وأوسع شهرة، وهذا الوضع منح الفونج امتيازا تمثل في مظهر أساسي واحد هو اقتطاع جزء من موارد دولة العبدلاب لدولة الفونج، ولم تكن جزية ا يعطيها العبدلاب عن يد وهم صاغرون، لاحتياج الأمر الي دليل، وللجهل بمقدار هذا المال ووقت ادائه وخروجه علي مفهوم الجزية الذي بينه الاسلام، ولكن هذا الجزء من موارد المشيخة كان يقدم ربما بمقتضي التزام سابق، لدعم الحليف الصديق، ورمزا للتآلف والود بين الحكومتين حين كان الود موصولا، فلما انفصم بفعل الأيام وصله العبدلاب بهذا المال درءا للاخطار وثمنا زهيدا للسلم(محمد صالح محي الدين: مشيخة العبدلاب، 1972م، ص 189).
4- ويقول د. نسيم مقار (وفيما عدا الجزية السنوية التي كان يأخذها السلطان السناري من هذه الممالك( ومنها مشيخة العبدلاب) وحق اختيار من يخلف الحاكم المتوفي في افراد أسرته، لم يكن له سلطة فعليةعلي الملوك والزعماء الذين كانوا احرارا في تصريف شئون ممالكهم(د. نسيم مقار: اقتصاد السودان في العصر الفونجي، ص 9)، ولم تحدد لنا المصادر بدقة قيمة هذه الجزية أو الضريبة التي كانت تدفع لحاكم سنار، ولكن الرحالة السويسري بركهارت في كتابه(رحلات في بلاد النوبة) يقول(ليس لملك سنار سلطان علي بربر اكثر من حق اختيار ملكها، ولكنه في ظل اربع سنين أو خمس يوفد اليها أحد رجاله ليجمع منها جزية من الذهب والجياد والابل قوامها عشرون أوثلاثون بعيرا علي التقريب، وكان ملوك دنقلا يؤدون جزية كهذه لسنار كذلك كان يؤديها عرب الشايقية، ولكنهم أمسكوا عنها بعد أن اشتد ساعدهم اخيرا)(بركهارت:رحلات، ص 171- 172).
5- ويري باحث آخر: جعفر طه حمزة : ( أن الاتحاد الفونجي العبدلابي ورثت فيه سلالة الفونج النظام الاقطاعي للعهد النوبي المسيحي وكيّفته لظروفها الجديدة وقّسمت الأراضي بين أطراف الاتحاد في شكل مشيخات ومكوكيات)، وأن ذلك الاتحاد كان محاولة لاستعادة واستمرارية الوضع السياسي الذي كان سائدا في مملكة النوبة المسيحية حيث كانت الحروب تسود بين القبائل ولاتخف حدتها الا بتاثير المصالح المادية عندما لاتكون هناك معاهدة أو اتفاق معقود حسب الأصول، كما يشيرالي انه: اتحاد اجتماعي قبلي مرتكز علي صلات القربي في قمته، أي كان تكوينا اقواميا ترتب في بنية قائمة علي مقاييس اقتصادية واجتماعية تمثلت في احتكار النظام(السلطان) للتجارة(جعفر طه حمزة: الاتحاد السناري، مجلة الثقافة السودانية، العدد(Cool نوفمبر 1978م).
6- وحول الحلف الفونجي العبدلابي يقول كاتب الشونة(اتفق رأيهم علي أن يكون عمارة ملكا عوضا عن ملك علوة، وأن عبد الله جماع يكون في مكان العرب، فتوجه واختط مدينة قري(تحولت الي الحلفاية فيما بعد) الكائنة عند جبل الرويان بالشرق وجعلها كرسي ملكه، وكذلك عمارة اختط مدينة سنار وجعلها كرسي ملكه). ويواصل كاتب الشونة ويقول(مازالا عمارة وعبد الله كالاخوين، الا ان رتبة عمارة أعلي وأعظم من رتبة عبد الله، اذا اجتمعا في مكان، واما اذا غاب عمارة فيعامل عبد الله كما يعامل عمارة، ولم تزل العادة جارية في ذراريهم الي القضاء علي ملكهم)( الشيخ احمد بن الحاج: (كاتب الشونة): تاريخ ملوك السودان، تحقيق د. مكي شبيكة1947م، ص 1).
7- وحول الأساس المادي والاقتصادي للحلف الفونجي العبدلابي بعد انهيار مملكتي علوة والمقرة المسيحيتين يقول د. مصطفي محمد مسعد(علي الرغم من تطور الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في هذا الجزء من حوض النيل ، فان هذا لم يؤد الي استقرار الأحوال فيه بسبب اختلال الأمن والنزاع بين القبائل العربية حول مواطن الرعي من ناحية وبينها وبين الوطنيين من ناحية أخري، مما ادي الي تدهور الأحوال الاقتصادية وزاد الأمور تعقيدا تعطيل التجارة بين هذه البلاد وبين مصر واختلال سير القوافل بينها بسبب اضطراب الأحوال في منطقة النوبة الشمالية، ولهذه الأسباب ظهرت الحاجة الي انشاء حكومة مركزية تخضع لها شتي القبائل والقبائل المتنازعة لاقرار الأمن وحماية التجارة القديمة)(د. مصطفي محمد مسعد: الاسلام والنوبة، 1960م).
• مع أخذ الآراء اعلاه في الاعتبار، نحاول تسليط الأضواء بتحليل تفصيلي اكثر لطبيعة ودوافع الحلف الفونجي العبدلابي من زوايا وأبعاد متعددة، دون النظرة الآحادية التي تركز علي جانب واحد وتهمل الجوانب الأخري المكملة.
1- مملكة الفونج هي حلقة اوسع وأرقي في سلسلة تطور الممالك السودانية التي تبدأ بالممالك القديمة(كرمة – نبتة- مروي) ثم النوبة المسيحية(نوباتيا- المقرة – علوة)، واخيرا مملكة الفونج او سنار. وبزوال مملكتي المقرة وعلوة، نشات تشكيلة اقتصادية اجتماعية كانت تتخلق في احشاء النظام القديم، وكان لابد من التعبير عنها سياسيا في نظام معين، وهذا النظام عبر عن التحولات الجديدة التي نشأت بعد انتشار الاسلام والقبائل العربية التي سيطرت علي المراعي الخصبة في اواسط وشرق السودان، وكان لابد لهذه القبائل أن تتجه لاواسط السودان وتتركز هناك نسبة لاتساع المراعي علي عكس شمال السودان التي كانت فيه الأراضي الزراعية فيه تتركز علي شريط النيل اضافة لطبيعة المنطقة الجبلية والصحراوية، وهذا ربما يفسر لنا لماذا انتقلت حضارة مروي الي منطقة كبوشية بالقرب من شندي وأرض البطانة والتي كانت اكثر خصوبة واتساعا من المنطقة الشمالية، وربما يفسر لنا لماذا كان وسط السودان(سنار و قري أو الحلفايا) مركز دولة الفونج والعبدلاب. ولاشك ان تلك القبائل الرعوية كانت متخلفة حضاريا عن شعوب النوبة الزراعية التي كانت تقطن علي ضفاف النيل والتي كانت اكثر تحضرا في ميادين الانتاج الحضاري والمادي، أي أنها كانت تمثل شعوبا مستقرة. وبالتالي، فان نظام الحكم الذي كان سائدا في ممالك النوبة كان يعبر عن ذلك السكون: نظام حكم مطلق لاحقوق فيه للرعية، وكل الذين يعملون في اراضي ملك النوبة عبيد له وغير ذلك، اضافة لعدم وجود شرائع تنظم الحياة العائلية. وبدخول القبائل الرعوية وبحكم طبيعتها التي ترفض حياة الاستقرار، وليست لها خبرة واسعة وغنية بالزراعة، ولكنها استفادت من خبرات المواطنين النوبيين الاصليين في شكلها المتطور، ولايعني ذلك ان كل القبائل التي وفدت من الجزيرة العربية كانت تجهل فنون وادوات الانتاج الزراعي، فالقبائل العربية التي كانت تقطن جنوب الجزيرة العربية وفي الواحات عرفت الزراعة والساقية وبناء السدود..الخ.استوعبت القبائل العربية القيم المادية في حضارة النوبة وكّيفتها نبعا لظروفها الجديدة، أي ان حضارة النوبة المادية تركت بصماتها علي التكوين السياسي الجديد وعلي التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية التي نشأت بعد انتشار الاسلام. وهذا الواقع الجديد كان له انعكاساته في الاتحاد الفونجي- العبدلابي، ذلك أن الاتحاد جاء لامركزيا، وكفل استقلال كل قبيلة في اطار الاتحاد العام، وبالصورة التي أوردها د.يوسف فضل ونسيم مقار ومحمد عمر بشير.
2- في احشاء التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية الجديدة، ساد نظام اقطاعي جديد غير مطلق كالذي كان سائدا في ممالك النوبة، وهذا النظام كان قريبا من الاقطاع الشرقي الذي كان يوزع فيه السلطان الأراضي علي القيادات القبلية والعسكرية والدينية مقابل ضريبة معينة أو خراج معين تدفع للسلطان أو من ينوب عنه، أي ان الناس تخلصوا من عبودية ملك النوبة في ظل النظام الاقطاعي الملكي الذي كان سائدا في بلاد النوبة سابقا. أي ان النظام الاقطاعي السابق تم تطويعه ليتكيف مع الظروف الجديدة علي حد تعبير د.جعفر طه حمزة، وتلك خطوة هامة في تطور النظام الاجتماعي في السودان، وربما يفسر لنا لاحقا لماذا لم يشهد السودان بعد ذلك النظام الاقطاعي (أو نظام القنانة القديم) الذي كان سائدا في الامبراطورية العثمانية وشرق اوربا والذي كان يمتلك فيه الاقطاعيون الاراضي ويعتبرون المزارعين عبيدا لهم.
3- كما هو الحال دائما عند نشوء حكم اقطاعي معين في العصور القديمة والوسطي، ان تقوم أسرة أو سلالة معينة تتمتع بقدرات تنظيمية وعسكرية ودرجة معينة من الرقي الحضاري في الغالب، مقارنة بما حولها، تقوم هذه الاسرة بالاستيلاء علي السلطة في البلد المعين وتوحد القبائل الأخري وتخضعها لسيطرتها، ويصبح بعد ذلك نظام الحكم الملكي متوارثا في هذه السلالة حتي يندثر حكمها وتحل محلها سلالة جديدة، هكذا كان المر في الاقطاع الأوربي والشرقي ، وهكذا كانت تكون الاتحادات القبلية. وفي سودان وادي النيل حكمت سلالات معينة في ممالك: كرمة ونبتة ومروي وممالك النوبة المسيحية، وبغض النظر عن منشأ تلك السلالات وأصلها، لاشك انها كانت تتميز بقدرات عسكرية وتنظيمية ودينية جعلتها تفرض سيطرتها علي بقية القبائل وتؤسس هذا النظام الملكي أو ذاك. وفي دارفور قامت أسرة سليمان سولونج بتوحيد القبائل العربية والافريقية حولها وكونت سلطنة دارفور.
كان الاتحاد الفونجي- العبدلابي تعبيرا عن واقع اقتصادي واجتماعي وديني جديد، نشأ بعد انتشار الاسلام وغلبة القبائل الرعوية وانتشارها في اواسط وشرق السودان، وبالتالي لم يكن غريبا أن تبرز سلالة العبدلاب والتي من اصل رعوي، كما جاء في رواياتهم السماعية(العبدلاب القبيل غير البقر والزراعة والخيل ماعندهم شئ غير الرعية)(راجع تاريخ العبدلاب من خلال رواياتهم السماعية، اعداد احمد عبد الرحيم نصر، شعبة ابحاث السودان، كلية الاداب جامعة الخرطوم، يوليو 1969م، ص 104) وتوحد القبائل العربية تحت قيادة عبد الله جماع وتقضي علي مملكة سوبا التي اصبحت عقبة في حياة هذه القبائل.
كما يرد في المصادر ايضا أن الفونج كانوا رعاة بقر، عليه لم يكن غريبا أن تبرز سلالتي الفونج والعبدلاب، وكل منهما ذات أصل رعوي وتكون الحلف الفونجي العبدلابي الذي عبر عن الواقع الجديد. ماذكره محمد صالح محي الدين أن الفونج كانوا اقدم ملكا وكثر تحضرا واوسع شهرة، هذا مامنحهم الامتياز علي العبدلاب، يشير الي ان سيادة سلالة معينة ليس عسكريا فحسب، بل ايضا لأسباب أخري مثل: التحضر والرقي الذي اكتسبته هذه السلالة، وانهم اكثر تطورا وتنظيما من القبائل الرعوية العربية التي توحدت علي يد عبد الله جماع.
4- دافع آخر هام للحلف الفونجي – العبدلابي وهو أنه جاء تعبيرا عن واقع جديد استولي فيه الفونج والعبدلاب علي أراضي النوبة الخصبة، كما يحدث عادة في العصور الوسطي، فالتجريد السياسي يعقبه تجريد اقتصادي، واهم ذلك الأراضي التي تعتبر ركيزة العمل الأساسية في المجتمع الزراعي الرعوي، والتي تصبح ملكا للسلطان أو الملك، وكان لابد من تقنين ذلك الاستيلاء في دولة معينة، وفي قوانين معينة تعبر عن ذلك الواقع الجديد.وقد عبر ودضيف الله في طبقاته بايجاز وبعمق عن ذلك الواقع الجديد الذي يلخص مضمون التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية الجديدة التي نشات بعد قيام مملكة الفونج، جاء في مقدمة كتاب الطبقات( أعلم أن الفونج ملكت أرض النوبة وتغلبت عليها أول القرن العاشر، ولم يشتهر في تلك البلاد مدرسة علم ولاقرآن، ويقال أن الرجل كان يطلق المرأة ويتزوجها غيره في نهارها من غير عدة، حتي قدم الشيخ محمود العركي من مصر وعلّم الناس العدة، وسكن البحر الأبيض وبني له قصرا يعرف الان بقصر محمود).
لخص ودضيف الله بايجاز وبعمق الواقع الجديد الذي تميز بالآتي:
أ‌- استيلاء الفونج علي أراضي النوبة نتيجة لسيطرتهم السياسية، كما أن تعبير الفونج هنا ربما يدل علي هيمنة الفونج في اطار الحلف الثنائي بين الفونج والعبدلاب والذي نشأ بعد اقتسام السلطة بينهما. أي اذا جاز الاستنتاج والتعبير أنه بقيام دولة الفونج، تم طرد الوطنيين الأصليين من أراضيهم، وتم الاستيلاء علي سواقيهم وأراضيهم الزراعية، وتلك هي الخطوة الولي والأساس الاقتصادي لسيطرة سلالة ملكية معينة. اي أن التجريد السياسي يتبعه تجريد اقتصادي، كما كان يحدث في اقطاع العصور الوسطي وفي الممالك القديمة، وأصبحت جميع الأراضي ملكا لسلطان الفونج الذي يقوم باقطاعها للزعامات القبلية أو الدينية او العسكرية بشروط وحجج معينة. وربما كانن تعبير (الفونج ملكت أرض النوبة) تعبيرا مكثفا عن الهيمنة السياسية والاقتصادية علي أرض النوبة.
ب‌- قبل قيام دولة الفونج كانت بلاد النوبة مسيحية أو وثنية أو خليط بين المسيجية والوثنية، ورغم الاختلاط الذي تم في صدر الاسلام بين المسلمين التجار والرعاة، الا ان الاسلام لم ينتشر بالشكل الصحيح في بلاد النوبة، كما عبر صاحب الطبقات(لم يشتهر في تلك البلاد مدرسة علم ولاقرآن)، وهذا يعكس أن قيام مملكة الفونج شكلت الاطار العام لانتشار الاسلام بالشكل المعروف في التاريخ، تعليم القرآن واللغة العربية في الخلاوي عن طريق الشيوخ ورجال الطرق الصوفية. أي أن النظام السياسي الذي جسدته مملكة الفونج اعطي دفعة قوية لانتشار الثقافة الاسلامية واللغة العربية بشكل حاسم في السودان الشرقي او سودان وادي النيل.
ت‌- عبر المؤرخ ود ضيف الله عن جانب من العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة الذي كان سائدا في بلاد النوبة، فلم يكن هناك زواج بالشكل المعروف الانوطلاق بعدة معينة حسب الشريعة الاسلامية، وانه بقيام دولة الفونج قدم شيوخ الصوفية مثل الشيخ محمود العركي الذي علم الناس العدة، وبالتالي عبر عن نقلة جديدة في العلاقات الاجتماعية وقامت علاقات الزواج والطلاق وتمليك الأرض ونظام الوراثة وفقا للشريعة الاسلامية والاعراف المحلية، وحلت اللغة العربية محل اللغة النوبية والبجاوية كلغة رسمية.
ث‌- عكس ودضيف الله جانبا من حياة بعض الشرائح في دولة الفونج التي كانت تعيش في قصور ومباني فاخرة من الحجر في مثال الشيخ محمود العركي(بني له قصرا يعرف الآن بقصر محمود) مما يعكس التمايز الاجتماعي والقوي الاجتماعية المختلفة التي كانت تعبر عنها دولة الفونج.
اذن يمكن القول، أن هناك عوامل متعددة أدت الي قيام الحلف الفونجي العبدلابي او مملكة الفونج التي شكلت اتساعا وشمولا جديدا في اطار وحدة سودان وادي النيل، فلأول مرة بعد عهد مالك النوبة يتم توحيد سودان وادي النيل(ماعدا الجنوب ودارفور) في دولة واحدة، أي أن الدولة السودانية شملت رقعة أوسع في ظروف جديدة، وهذه المنطقة التي شملت دولة الفونج، كانت تقريبا حدود مملكتي المقرة وعلوة.
وأخيرا يمكن ان نلخص دوافع الحلف الفونجي- العبدلابي علي النحو التالي:
1- ظهور تشكيلة اقتصادية- اجتماعية كانت تتخلق في احشاء النظام القديم، وكان لابد من التعبير عنها في شكل سياسي معين يتناسب معها.
2- ظهور علاقة ملكية جديدة للارض وعلائق اجتماعية جديدة، كان لابد من التعبير عنها في نظام حكم او دولة معينة وخاصة بعد انتشار القبائل العربية واصبح لها الغلبة في أرض النوبة.
3- انتشار الاسلام بعد أن قويت شوكة القبائل العربية ونتيجة لحدوث هذا التحول الكمي والبطئ في معتقدات الناس بعد سبعة قرون من اتفاقية البقط، واصبحت الغلبة للاسلام بعد اندثار المسيحية، كان لابد من وجود نظام سياسي جديد ونظام تشريعي جديد يعبر عن القوي الاجتماعية والدينية وفقا لمعتقداتها، أي ان هناك عامل ديني ادي لقيام الحلف.
4- وفي اطار قيام دولة الفونج، تدخل العوامل والدوافع الاقتصادية مثل: حماية تجارة القوافل، أي التجارة الداخلية والخارجية بتوفير الأمن والاستقرار وغير ذلك من وظائف الدولة، التب تنشأ في ظروف تاريخية معينة كنتاج لتناقضات وصراعات اجتماعية وطبقية والتي تعبر عن مصالح طبقات أو قوي اجتماعية محددة.
اذن يمكن القول: ان هناك مجموعة عوامل ادت الي قيام الحلف الفونجي- العبدلابي تتكون من اقتصادية وأمنية ودينية وسياسية واجتماعية.
المصادر والهوامش:
• تمت تسميتها بالسلطنة الزرقاء تمييزا لها عن مصر التي كانت تسمي بالسلطنة الحمراء، وكلمة الفونج تعني البيت الحاكم(انظر د. عبد الحميد متولي: تطور نظام الحكم في السودان منذ أقدم العصور، الجزء الأول 1969م، ص 101). ويقول الشاطر بصيلي عبد الجليل: كلمة الفونج كانت تطلق في الأصل علي الأسرة الحاكمة في سنار، أو علي التعبير الذائع لدي بعض الكتاب: (البيت السناري الحاكم) ، ثم استعملت هذه الكلمة: الفونج بمعني أوسع شملت الشعب الذي يحكمه جماعة من الفونج مثل: الفراعنة التي كانت تطلق علي ملوك مصر القديمة، ثم استعملت الكلمة بمعني أوسع حيث شملت الشعب المصري القديم الذي يحكمه أولئك الملوك(الشاطر بصيلي عبد الجليل: معالم في تاريخ سودان وادي النيل، ص 24).
2- الشيخ احمد بن الحاج(كاتب الشونة): تاريخ ملوك سنار السودان، تحقيق مكي شبيكة 1947م.
3 – أحمد عبد الرحيم نصر: تاريخ العبدلاب من خلال رواياتهم السماعية، شعبة ابحاث السودان، كلية الآداب جامعة الخرطوم يوليو 1969م.
4- تاج السر عثمان: لمحات من تاريخ سلطنة الفونج الاجتماعي، مركز محمد عمر بشير 2004م.
5- تاج السر عثمان: تاريخ النوبة الاقتصادي – الاجتماعي، دار عزة 2003م.
6- جعفر طه حمرة:الاتحاد السناري:التكوين والتطور السياسي في سلطنة سنار، مجلة الثقافة السودانية، العدد(Cool نوفمبر 1978م.
7- مكي شبيكة: السودان عبر القرون، 1965م.
8- محمد عمر البشري:أصل الفونج، مجلة الدراسات السودانية، العدد(1) المجلد(7) ديسمبر 1982م.
9- محمد عمر بشير:تاريخ الحركة الوطنية في السودان، ترجمة الجنيد علي عمر وآخرون 1987م.
10- محمد صالح محي الدين: مشيخة العبدلاب، دار الفكر بيروت 1972م.
11- محمد ابراهيم ابوسليم:الفونج والأرض(وثائق تمليك) مطبعة التمدن 1967م.
12- مصطفي محمد مسعد:الاسلام والنوبة في العصور الوسطي، القاهرة 1960م.
13- نسيم مقار: اقتصاد السودان في العصر الفونجي، جامعة الخرطوم.
* في مخطوطة كاتب الشونة(تاريخ ملوك سنار واقاليمه) معارضة لرأي ودضيف الله القائل (لم يشتهر في تلك البلاد مدرسة علم ولاقرآن واحتج بأن ذلك كان قاصرا علي جهة النيل الأبيض).
14- نعوم شقير: تاريخ السودان، تحقيق د. محمد ابراهيم ابوسليم، دار الجيل بيروت 1981م.
15- طبقات ود ضيف الله، تحقيق د. يوسف فضل ، ط3،دار جامعة الخرطوم للنشر 1985م.
16- يوسف فضل: مقدمة في تاريخ الممالك السودانية في السودان الشرقي، دار جامعة الخرطوم 1989م.
17- J.L Burkrad; Travels in Nubia, London 1891.


الحوار المتمدن