من وحي السنة ..قانون السفينة
قسم الله – تعالى – سننه إلى شرعية وكونية، فدخول المؤمن الجنة من سننه الشرعية،
وطلوع الشمس من المشرق من سننه الكونية، وقد تتلاقى
السنن الكونية والشرعية كما في الزلازل والبراكين وغيرها، ومن هذه السنن التي تلاقت فيها السنن الشرعية والكونية
أحوال المجتمعات؛ فهي كما مَثَلها رسولنا الكريم _صلى الله عليه وسلم_ بقوله:
(مثل المدهن في حدود الله، والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار
بعضهم في أعلاها، فكان الذين، في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها؛ فتأذوا به؛
فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا: مالك؟ قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء؛
فإن أخذوا على يديه انجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأُهلكوا أنفسهم)
[أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الشركة، باب هل يُقْرع في القسمة؟ والإستهام فيه: فتح الباري (5/157)].
، ويظهر من الحديث مدى تأثر السفينة بكاملها عند ترك الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر من آثار تعود على كل ركابها سواء أكانوا في أعاليها أو في أسافلها.
وتلك السنة التي أقرها رسولنا الكريم لهي حصن لمجتمعات المسلمين لعدم الانزلاق في مستنقع الانحرافات الغربية
بمسمياتها المختلفة، سواء أكان بطريقة مباشرة أو عن طريق أذيالهم في مجتمعات المسلمين،
فلقد ذاق عدد من المجتمعات العربية والإسلامية القريبة جغرافياً من مجتمعنا ويلات تلك الانزلاقات والانحرافات،
وما يريده الغرب وأذيالهم من الليبراليين والعلمانيين من مجتمعنا هو أن نصبح مثل تلك المجتمعات،
فلا نأمر بمعروف ولا ننهى عن المنكر فيصبح الأمر كله سيان، بل الأدهى من ذلك أنهم يسعون لأن يصل
مجتمعنا لأن يأمر بالمنكر وأن ينهى عن المعروف، وهم يستخدمون في ذلك الأساليب المتعددة للوصول لهدفهم.
ومن عظيم المعروف أن يقوم شخص أو مجموعة بأفعال تكفيك وغيرك من القيام بها، وهذا ما يقوم به الدعاة من الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم أبَوْا أن يستشري الوهن في خير أمة أخرجت للناس، وهذا مصداق قوله تعالى:
{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هو المفلحون}.
[آل عمران : 104]
وعلق الإمام السعدي – رحمه الله – على هذه الآية بقوله
"وليكن منكم أيها المؤمنون الذين مَنَّ الله عليهم بالإيمان والاعتصام بحبله {أمة}أي: جماعة
{يدعون إلى الخير} وهو اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله ويبعد من سخطه {ويأمرون بالمعروف} وهو ما عرف بالعقل والشرع
حسنه {وينهون عن المنكر} وهو ما عرف بالشرع والعقل قبحه، وهذا إرشاد من الله للمؤمنين أن يكون منهم جماعة
متصدية للدعوة إلى سبيله وإرشاد الخلق إلى دينه،
ويدخل في ذلك العلماء المعلمون للدين، والوعاظ الذين يدعون أهل الأديان إلى الدخول في دين الإسلام،
ويدعون المنحرفين إلى الاستقامة، والمجاهدون في سبيل الله، والمتصدون لتفقد أحوال الناس وإلزامهم بالشرع
كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من شرائع الإسلام، وكتفقد المكاييل والموازين
وتفقد أهل الأسواق ومنعهم من الغش والمعاملات الباطلة، وهذه الطائفة المستعدة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر هم خواص المؤمنين، ولهذا قال تعالى عنهم: {وأولئك هم المفلحون} الفائزون بالمطلوب، الناجون من المرهوب" .
[تفسير السعدي (آل عمران : 104)، ص 63 – بتصرف].
إن تشريف العلي الحكيم لفئة تقوم بعمل بعينه لهو أعظم تشريف يتلقاه الإنسان في دنياه، وهي بشرى المؤمن،
وعلى المجتمع أن يرفع قدر هذه الفئة التي جعلت همها الشاغل هو الحفاظ على سلامة السفينة من أي خرق،
إن حدوث خرق في سفينة ما فإنها تبدأ في الغرق، ويصبح إصلاحها بالصعوبة
بقدر الخرق الحادث بها، فالأجدر من إصلاح السفينة أن نسعى لعدم خرق السفينة أصالة وأن نجعل بين سلامة السفينة
وخرقها حاجز بيّن، وهذا مصداق قوله : _صلى الله عليه وسلم _
(...كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه...) فمن سعى لأن يقترب من خرق السفينة دون أن يجد من
يَشُد على يديه بل إذا ناصحه أحد يقول أنه بعيد عن الخرق فهو كالذي يرعى حول الحمى فلا يدري في أي وقت يقع.
وما أجمل ما قاله أحد حكماء وبلغاء الأمة مصطفى صادق الرافعي – رحمه الله – حول هذه السنة فقال:
"إن القانون في السفينة إنما هو قانون العاقبة دون غيرها، فالحكمُ لا يكون على العمل بعد وقوعه كما يُحكم على الأعمال الأخرى،
بل قبل وقوعه؛ والعقاب لا يكون على الجرم يقترفه المجرم كما يعاقب اللص والقاتل وغيرهما، بل على الشروع فيه،
بل على توجُّه النية إليه، فلا حرية هنا في عمل يُفسد خشب السفينة أو يمسه من قرب أو بُعد ما دامت ملججة في بحرها،
سائرةُ إلى غايتها؛ إذ كلمة الخرق لا تحمل في السفينة معناها الأرضي وهناك لفظةُ (أصغر خرقٍ) ليس لا إلى معنى واحد
وهو: (أوسع قبرٍ)" [وحي القلم 3/8].
ولا يُظن أن القائم والحافظ على سلامة السفينة لهو بمنأى عن الإيذاء ووجود العثرات التي تعكر عليه صفوه،
بل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليترتب عليه ترك هوى النفس وحظها – كما هو حال فئات من المجتمع -،
فكان الإيذاء للآمر الناهي حتم لازم، لا مفر منه ولهذا خص الله – تعالى – هذه الفئة بآيات كثيرة تحُض على الصبر
لما تقوم به، ومن هذه الآيات البينات قوله – تعالى- {يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانهى عن المنكر
واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} [لقمان: 17]
..واخيرا الحمد لله رب العالمين