السؤال: ما الدليل على أن الإمام البخاري وغيره من الحفاظ كان أحدهم يحفظ ما يقارب مائة ألف حديث ؟ هل هناك دليل صحيح موثوق على صحة ذلك ؟ وكيف أمكن لهم أن يحفظوا هذا المقدار الهائل وهم الذين كانوا يقرؤون ويؤلفون ويراجعون القرآن .. الخ ؟ كيف أمكنهم فعل كل ذلك ؟ وهل عُثر في التأريخ سواء قبل هؤلاء الحفاظ أم بعدهم أن أحداً بلغ في الحفظ ما بلغوا ؟ .
الجواب :
الحمد لله
أولاً:
إذا عرفتَ معنى " الحديث " في كلام أولئك الأئمة لعله يزول الإشكال عندك ، والمقصود بالحديث في كلامهم أو كلام مترجميهم : أسانيد الأحاديث وطرقه ولو كانت لمتن واحد ، ويعنون به أقوال الصحابة رضي الله وأقوال التابعين رحمهم الله بكافة طرقها وأسانيدها كذلك .
قال الشيخ عبد الحي الكتاني – رحمه الله - : " وقال البخاري : أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح ، وقال مسلم : صنفتُ هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته كتاب " السنن " ، وقال الحاكم في " المدخل " : كان الواحد من الحفاظ يحفظ خمسمائة ألف حديث ، سمعت أبا جعفر الرازي يقول : سمعت أبا عبد الله بن وارة يقول : كنت عند إسحاق بن إبراهيم بنيسابور فقال رجل من أهل العراق : سمعتُ أحمد بن حنبل يقول : صح من الحديث سبعمائة ألف وهذا الفتى – يعني : أبا زرعة - قد حفظ سبعمائة .
قال البيهقي : أراد : ما صح من الأحاديث وأقاويل الصحابة والتابعين .
قلت : رحم الله الحافظ البيهقي فقد أزال عن القلب غمة ورفع عن الدين أكبر وصمة بهذه الإفادة التي شرح فيها هذه المقالة ؛ فإن كثيراً من المتفقهين الآن يقولون : مع تكفل الله بالدين أين هذا المقدار من السنَّة الآن فهل لم يدوَّن ؟ فبيَّن البيهقي أن مرادهم بهذه الأعداد العظيمة ما يشمل السنَّة وآثار الصحابة والتابعين ، أو أنهم كانوا يريدون طرق الحديث المتنوعة ، فيجعلون كل طريق حديثاً ، وكل حديث له طرق وروايات ؛ فمرادهم بهذا العدد العديد : طرق الحديث الواحد العديدة ورواياته المتنوعة ، وقد يكون الحديث واحداً ولكن باعتبار طرقه واختلاف ألفاظه وتعدد من رواه يعدُّ الحديث الواحد بالمائة ، لأنهم كانوا يقولون : لو لم نكتب الحديث من عشرين وجهاً ما عرفناه " انتهى من " التراتيب الإدارية " ( 2 / 204 ) .
وقال ابن الصلاح – رحمه الله - : " وقد قال البخاري : أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح ، ... إلا أن هذه العبارة قد يندرج تحتها عندهم آثار الصحابة والتابعين ، وربما عد الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين " انتهى من " مقدمة ابن الصلاح " ( ص 10 ) باختصار .
ثانياً:
أهل الحديث مراتب ، فمنهم " المُسنِد " ومنهم " المحدِّث " ومنهم " الحافظ " ، ولم يكونوا يطلقون لقب الحافظ إلا على من ثبت حفظه لطرق الأحاديث وأسانيدها ، وليست هذه الألقاب مورَّثة ولا مشتراة ، ولم تكن ألقاب مجاملة وليس يُطلقها الأتباع والتلامذة ، إنما يُطلقها على من يستحقها الأئمة الكبار ، أو يحدث هو عن نفسه وهو إمام ثقة صادق ، وقد كان الحفاظ والنقاد يعرفون مقدار حفظ أولئك الأئمة بالمدارسة ومجالس الإملاء والتحديث ، وقد ثبت بأسانيد صحيحة أن كبار أولئك الحفاظ – كالإمام أحمد - يحفظ مليون حديث ! وقد ثبت عن البخاري أنه يحفظ مائة ألف حديث صحيح ويحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح .
قال الإمام الذهبي – رحمه الله - : " قال عبد الله بن أحمد : قال لي أبو زرعة : أبوك يحفظ ألف ألف حديث ، فقيل له : وما يدريك ؟ قال : ذاكرتُه فأخذت عليه الأبواب .
فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله ، وكانوا يعدُّون في ذلك المكرر ، والأثر ، وفتوى التابعي ، وما فسر ، ونحو ذلك ، وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عُشر معشار ذلك " انتهى من " سير أعلام النبلاء " ( 11 / 187 ) .
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : " وقال محمد بن حمدويه : سمعت البخاري يقول : أحفظ مائة ألف حديث صحيح ، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح " انتهى من " مقدمة فتح البارى " ( ص 488 ) .
ثالثاً:
ما ذكر من حفظ هؤلاء الأئمة ليس عجيبا على قدرة الله تعالى ، حيث وهب بعض خلقه القدرة على الحفظ ، ورزقهم الهمة العالية في الحفظ ؛ وكل ذلك مِن حفظ الشرع الذي تكفَّل الله تعالى به ، وقد سأل ورَّاق البخاري المصاحب له أستاذه الإمام البخاري : هل مِن دواء للحفظ ؟ فقال : لا أعلم ، قال : ثم أقبل عليَّ فقال : لا أعلم شيئاً أنفع للحفظ من نهمة الرجل ، ومداومة النظر . انتهى من " مقدمة فتح البارى " ( ص 488 ) .
وأما المعاصرون لنا في زماننا هذا فلهم – أيضاً – شأن عجيب ، ومن حفاظ هذا الزمان الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ عبد الله الدويش ، والشيخ يحيى بن عبد العزيز اليحيى ، والشيخ صالح بن عبد الله العصيمي ، وأما الشناقطة المعاصرون فشأنهم أعجب وأعجب ، ومنهم العلامة " سيدي محمـد ابن العلاّمـة سيدي عبد الله ابن الحاج إبراهيم العلوي " رحمه الله – توفي عام 1250هـ - حيث يقول : " إن علوم المذاهب الأربعة لو رُمي بجميع مراجعها في البحر لتمكنتُ أنا وتلميذي " ألْفَغّ الديماني " من إعادتها دون زيدٍ أو نقصان ! هو يحمل المتن وأنا أمسك الشروح " ! .
ومنهم العلاّمة " محمد محمود التّرْكُزي " رحمه الله - توفي عام 1322هـ - حيث كان يتحدى الأزهريين بأنه أحق بإمامة اللغة والاجتهاد فيها منهم ؛ لأنه يحفظ " القاموس المحيط " كحفظه الفاتحة ! فاستبعدوا ذلك وعقدوا له مجلساً بالأزهر ، فكان كما قال ، فأقرّوا له وصاروا يصححون نسخهم من نسخة " التركزي " رحمه الله المحفوظة في صدره .
ومنهم الشيخ الإمام محمد سالم عبد الودود وابن أخته الشيخ محمد الحسن الدَّدَوْ ، وغيرهم كثير .
ومن أراد المزيد من أخبار حفاظ زماننا فلينظر ما تحت هذين الرابطين – ومنهما استفدنا - :
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=4931
و
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=30684
وقد رزق الله تعالى أولئك الحفاظ نعمة حفظ الوقت وإدارته ، وكما رأيتَ – أخي السائل – فإن أولئك الأئمة كانوا مع حفظهم فقهاء ومعلمين وأصحاب وظائف ، وقد كانوا يعطون كل شيء حقَّه ومستحقَّه ، ومن رتَّب وقته وأدار ساعات يومه باقتدار حاز ما حازه أولئك الحفَّاظ ، ولا غنى لأحدٍ عن فضل ربِّه تعالى وتوفيقه .
والله أعلم