النوبيين
المحس-الدناقله-السكوت-الحلفاويين-الكنوز



توجد العديد من الدلائل التي تشير بوضوح إلى كون الحضارة النوبية أقدم في الوجود من الحضارة المصرية القديمة ( الفرعونية ) ، وفيما يلي بعض من هذه الأدلة :
1- توصلت بعثة سويسرية بقيادة البروفيسور تشارلس بونت من خلال الحفريات التي قامت بها في شمال السودان إلى أن الحضارة النوبية أقدم بكثير من رصيفتها في شمال الوادي . كما ذهب البروفيسور إلى أن الحضارة المصرية القديمة ربما تكون من الحضارة النوبية .

2- صرح د. ديفيد أ. كونور عالم المصريات الشهير والمشرف على العديد من معارض المصريات حول العالم ، بأن الأبحاث الحديثة قد أثبتت أن جنوب الوادي قد عرف الممالك القوية المنظمة منذ وقت بعيد لم يكن فيه شمال الوادي يعرف أية كيانات سياسية منظمة كتلك التي نشأت في جنوبه .

اختلف العلماء والكتاب المعاصرين كثيرا حول الأصول القديمة للإنسان النوبي . فعلى الرغم من كثرة الدراسات والأبحاث التي أجريت في هذا الجانب إلا انه لا يوجد حتى الآن اتفاق علمي محدد حول أصل النوبيين . وقد درج معظم هؤلاء على البحث عن المواطن الأولى للإنسان النوبي قبل ظهوره في وادي النيل ، فخرجوا علينا بالعديد من الآراء والاستنتاجات أهمها :

* أن النوبيين ينتمون "كوش" أو "كاش" الذي ورد ذكره في التوراة وأيضا الإنجيل ، وهو كوش بن حام بن نوح أخو "مصرايم" جد المصريين ووالد "نوبة" الذي يعتقدون بأنه والد الأمم النوبية الحالية التي هاجرت إلى أفريقيا بعد الطوفان واستقرت في أجزاء منها فسميت باسمهم . . وعليه فان أصحاب هذا الرأي يرون بوحدة الأصل النوبي والمصري القديم حيث ينتمي كلاهما - حسب رأيهم - إلى السلالة الحامية التي تندرج تحت السلالة القوقازية .

* أن النوبيين جزء من السلالة المصرية القديمة نزحت جنوبا في بعض الفترات التاريخية واستقرت في تلك المناطق التي توجد بها آثارهم الآن . ولعل أصحاب هذا الرأي يرون في وجود الآثار المصرية من اهرامات ومعابد وخلافها في المناطق النوبية القديمة دليلا على ما ذهبوا إليه ، لكن يرد على هذا القول بأن النوبيين اختلطوا على مر تاريخهم الطويل بمختلف التيارات الثقافية ولم يقتصر اتصالهم على المصريين وحدهم . ومن الثابت أن الرومان والإغريق والعرب - وحتى شعوب شرق آسيا والهند - قد أسهموا أيضا في تشكيل ملامح الثقافة النوبية الحالية ، كل منهم بدرجات متفاوتة . لذلك لا يمكننا في معرض البحث عن أصول المجموعات النوبية الاعتداد بوجود تلك الآثار ، إذ أن التماثل الثقافي بين المجموعات يمكن إرجاعه إلى عامل التأثير والتأثر الناتج عادة عن الاحتكاك والتواصل المستمر بين الأمم المختلفة لفترات طويلة من الزمن عبر التاريخ .

* أن النوبيين هم من أصول زنجية هاجرت إلى المنطقة من كردفان ودارفور في غرب السودان عبر الصحراء الكبرى لوادي النيل ومنها للمناطق الشرقية المتاخمة . استدل أصحاب هذا الرأي بصور وتماثيل الملوك النوبيين التي وجدت على جدران المعابد النوبية القديمة حيث تحمل كلها السحنة الزنجية ، كما استندوا إلى تشابه اللغة النوبية مع بعض لغات جبال النوبة في بعض المفردات اللغوية . والواقع أن هذا الجانب المتعلق باللغة جذب اهتمام الكثيرين وخضع للدراسات والأبحاث المختلفة من قبل الباحثين والدارسين المتخصصين ، إلا انه لم يتم التوصل حتى الآن لأي دليل علمي يثبت وحدة الأصل أو الاتصال ما بين اللغة النوبية ولغات جبال النوبة أو غيرها من اللغات الأفريقية الأخرى على الاطلاق .

* أن النوبيين ربما يكونوا قد وفدوا إليها من آسيا عبر البحر الأحمر من عهود بعيدة جدا ما قبل التاريخ ففقدوا ملامحهم الأصلية بطول البقاء وأصبحوا على ما نراهم عليه اليوم .

* أن النوبيين نشأوا أصلا في قارة أفريقيا ثم تشعبوا فيها إلى قبائل وبطونا استقرت كلها على امتداد وادي النيل حيث توجد آثارهم الآن . وعليه ، فإن أصحاب هذا الرأي يأخذون بأصالة النوبيين وينفون أي صلة عرقية بينهم وبين غيرهم من المجموعات السكانية التي قالت بعض الآراء بانتمائهم إليها .

* أن النوبيين ينتمون أصلا لقبيلة النوبادي البدوية التي كانت تجول في الأجزاء الجنوبية من ليبيا والمغرب ، وقد وفدوا لوادي النيل عبر الصحراء الغربية واستقروا على ضفافه في فترات مبكرة من التاريخ حيث اكتسبوا مهارة الزراعة وفقدوا خصائصهم البدوية ولغتهم الأصلية بطول البقاء . يستند أصحاب هذا الرأي إلى الشبه الكبير بين لغات بعض القبائل البدوية في شمال أفريقيا واللغة النوبية ، بالإضافة إلى التشابه في التقاليد والعادات . ويعتقد أنصار هذا الرأي بأن اسم النوبة نفسه ربما يكون قد اشتق من اسم " النوبادي " أو " النوباد " .

يتفرع النوبيون إلى عدة فصائل أو " بطون " صغيرة شأنهم في ذلك شأن معظم القبائل السودانية الكبيرة. سبب هذا التقسيم يرجع ربما إلى العامل الجغرافي وطبيعة المنطقة التي اقتضت توزع السكان في مجموعات صغيرة استقرت كل منها في جزء معين من الإقليم النوبي بعيدا عن المجموعات الأخرى بهدف تقاسم الموارد الشحيحة للمنطقة .
وبالرغم من عدم وجود أية فروق جوهرية في العادات والتقاليد ما بين هذه البطون ، إلا أنه يمكن ملاحظة اختلافات طفيفة في اللهجة من منطقة لأخرى بدرجة طفيفة جدا لا يلحظها إلا النوبيون أنفسهم .
وعموما فإن النوبيين لا يكترثون كثيرا بهذه الفروق الطفيفة ، بل يرون أنفسهم - على اختلاف لهجاتهم - نسيجا واحدا لا يمكن التفرقة بين عناصره . ولعل روح الانتماء المشهودة لدى النوبيين وإصرارهم على التمسك بالأصالة هو ما ساعدهم على الوقوف في وجه المحاولات المتكررة التي تعرضوا - وما زالوا يتعرضون - لها لطمس هويتهم أو فصلهم عن الجذور .
أهم التقسيمات التي يندرج نوبيو اليوم تحتها :

1- الكنوز ( الماتوكية ) :
وهم نوبة مستعربة اختلطوا من عهود بعيدة بالعنصر العربي حيث صاهر زعماءهم أفراد من قبيلة ربيعة الوافدة فاكتسبوا الدماء العربية . كانت لهم منعة ومكانة مرموقة أبان الفتح الإسلامي لمصر و أسسوا في فترة من الفترات إمارة نوبية عربية كانت عاصمتها أسوان . كان ولاءهم قويا للفاطميين الذين استعانوا بهم في نشر الإسلام في بلاد النوبة .
موطنهم الأصلي هو "مريس" والمناطق المجاورة لها ، إلا أنهم ينتشرون الآن في رقعة واسعة من جنوب مصر وتحديدا على الحدود السودانية المصرية ، وهم يتحدثون اللغة النوبية باللهجة الكنزية ( انظر : اللغة النوبية ).

2- الفادجا والماتوكية :
من فصائل النوبة الأصليين .

3- الإلـقـــــاد :
عرب استوطنوا حول كورسكا واختلطوا بالنوبة وتعلموا لغتهم

4- الحلفــاويين :
يتمركزون ما بين الشلالين الثاني والثالث بدءا من الحدود السودانية المصرية وحتى بطن الحجر. يتحدثون اللغة النوبية بلهجة الكنوز .

5- المحـــــــس :
يستوطنون ما بين الشلالين الثاني والثالث بما فيها بطن الحجر والسكوت والمحس .

6- الدناقلــــــــة :
من الشلال الثالث حتى حدود الشايقية بالقرب من مدينة الدبة . تختلف لهجتهم من بقية اللهجات النوبية ، ويعتقد أنها الأقدم

يعتبر النوبيون من المجموعات القبلية المميزة في السودان بعاداتهم وتقاليدهم الضاربة بجذورها عميقا في التاريخ . وليست العادات فقط هي التي تميز نوبيو اليوم عن غيرهم من القبائل السودانية ، وإنما هنالك أيضا اللغة والخصائص الجسدية والنفسية التي لا يشاركهم فيها غيرهم من أبناء وطنهم الكبير ( السودان ) .
هذا التفرد في الخصائص والثراء في الموروث من العادات والتقاليد جاء نتاج تفاعل طويل مع

التيارات الحضارية المختلفة التي احتكت بها الحضارة النوبية في مسيرتها الطويلة عبر القرون .
ولعل أهم مظاهر تميز المجتمع النوبي هي جمعه ما بين الزنوجة التي ينتمي إليها بحسب الأصل ، والعروبة التي تأثر بها بفعل التواصل والاختلاط . لذا يصعب تماما تصنيف النوبيين تحت أي من هذين العرقين اللذان يشكلان جذور معظم القبائل السودانية الحالية . ومن هنا يمكن تلخيص أهم ملامح المجتمع النوبي في الآتي :

1- الأصالة والحرص على الهوية والتمسك الشديد بالجذور ، وخير دليل على ذلك المجتمعات النوبية القائمة حاليا في المهاجر سواء داخل السودان أو خارجه حيث ظلت متمسكة بتقاليدها وعاداتها بالرغم من أنها اقتلعت من جذورها منذ عهد بعيد ونقلت لبيئات تختلف تماما عن بيئتها الأصلية .

ويتهم النوبيين بعزوفهم عن الدخول في علاقات مصاهرة مع غير النوبيين ، ويرون في هذا نوعا من العنصرية . وبالرغم من أن هذا الاتهام قد يكون صحيحا إلى حد ما ، إلا انه لا يرجع إلى عنصرية النوبي أو رغبته في الانغلاق، وإنما لخلفيات تاريخية تمتد جذورها لعصور الممالك النوبية القديمة حيث كان الملك والثروة ينتقلان عن طريق الفرع الأنثوي من العائلة ابن البنت أو ابن الأخت ، لذا كان النوبي القديم يحرص كثيرا على اختيار من سيتزوج بابنته أو أخته باعتبار انه سيكون وريثه . ويبدو أن هذه الصفة قد ظلت ملازمة لنوبيين حتى الآن وان كانت قد بدأت في التلاشي مؤخرا . جدير بالذكر هنا أن هذه العادة مرتبطة بزواج الإناث النوبيات فقط دون الرجال ، حيث لا توجد أية قيود على زواج الذكور .
وعموما ، أيا كانت الانتقادات الموجهة للنوبيين حول هذا الخصوص فإننا نعتقد بان شدة الانتماء لأصل معين والتمسك الشديد بأعرافه وتقاليده لا تعني مطلقا احتقار ما عداه من الأصول أو الثقافات الأخرى .

2- الحلم والوداعة وإيثار السلام على الحرب ، حيث يعرف النوبي بكرهه الشديد للعنف وحبه للمرح والابتهاج في كل الظروف . ولعل محاضر الشرطة خير دليل على ذلك إذ لم تسجل منذ إنشائها إلا أربع أو خمس جرائم قتل على امتداد المنطقة النوبية بأكملها . وعموما لا يعرف النوبيون العنف والشجار ويميلون دائما لحل مشاكلهم بالطرق السلمية وعبر الأجاويد والمجالس المدنية غالبا . هذه الصفة لا تتعارض بالتأكيد مع متطلبات الشجاعة والإقدام ، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار مواقف النوبيين في ظروف كثيرة كانت تتطلب الجرأة والبسالة.... والتاريخ خير شاهد على ذلك .
عموما ، يبدو أن النوبيين قد اكتسبوا هذه الصفة منذ زمن طويل عندما ودعوا مبكرا حياة البداوة والترحال واستقروا في مجتمعات مدنية متحضرة تلفها الطمأنينة والأمان .

3- الترابط الشديد وحبهم لبعضهم البعض ، حيث أن من المعروف عن النوبيين ارتباطهم القوي ببعضهم البعض أينما حلوا ، وعلى اختلاف طبقاتهم أو مراكزهم الاجتماعية . ولعل هذا ما يدعو البعض إلى وصف النوبيين أحيانا بالعنصرية ، وهو وصف غير صحيح على الإطلاق، إذ يدرك كل من خالط النوبيين وخبرهم أريحيتهم المشهودة وحبهم للاختلاط مع الغير وسرعتهم في تكوين علاقات اجتماعية متعددة في الأوساط التي يعيشون فيها